17 فبراير 2019

معجزة صوم الاثنين والخميس .





" كان نبينا الكريم يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع .."

كان هذا هو موضوع جائزة "نوبل" لعام 2016 للفسيولوجي 
والطب للطبيب والعالم اليابانى المسلم " يورشينوري اوهسومي "
صاحب الصورة بالأعلى..

حيث قال في دراسته ..

حين يجوع جسد الإنسان يأكل نفسه أو يقوم بعملية تنظيف لنفسه
وذلك بإزالة كل الخلايا السرطانيه وخلايا الشيخوخة والزهايمر
ويحافظ علي شبابه ويحارب أمراض السكر والضغط والقلب عن
طريق تكوين بروتينات خاصة لا تتكون إلا تحت ظروف معينة
وعندما يصنعها الجسم تتجمع بشكل انتقائي حول الخلايا الميتة
والسرطانية والمريضة وتحللها وتعيدها إلى صورة يستفيد منها
الجسم .. وهذا ما يشبه تدوير المخلفات أو "recycling..

وهذه العملية والتي تسمى " autophagy " تحتاج إلى ظروف غير
تقليدية تجبر الجسم عليها وتتمثل هذه الظروف في امتناع الإنسان
عن الطعام والشراب لمدة تتراوح مابين 8 إلى 16 ساعة بشرط
أن يتحرك الإنسان في تلك الفترة ويمارس حياته الطبيعية وتتكرر
هذه العملية لفترة من الزمن لكي يتمكن الجسم الإستفادة من هذه
العملية وحتي لا تعطي فرصة للخلايا السرطانية أن تنشط مجددا
وأثناء هذا الحرمان الكامل والمتكرر يوميا لاحظوا نشاط جسيمات
بروتينية غريبة أسموها "autophagisomes" تتكاثر في كل
من أنسجة المخ والقلب والجسد تكون أشبه بمكانس عملاقة تتغذى
على أي خلية غير طبيعية تقابلها.. ونصحت الدراسة بعمل مايسمى
ب "starvation" وهي تعني ممارسة الجوع والعطش يومان أو
ثلاثة أسبوعياً من ٨ إلى ١٦ ساعة..

فصلوا على الحبيب المصطفى ونبينا الكريم الذي ما نطق عن
هوى منه بل هو وحي يوحى إليه ..



*****************************************



8 فبراير 2019

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ }





قال تعالي : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ } 

( سبأ10 ) .. 

نركز هنا علي ومضات الإعجاز التاريخي, والعلمي, والتربوي في ذكر نبي الله داود عليه السلام ـ في هذه الآية الكريمة, وفي غيرها من آيات القرآن المجيد.


من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة:
======================

في الأثر أن داود ـ عليه السلام ـ عاش في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد وتولي الملك ـ علي جزء من أرض فلسطين ـ في حدود سنة(1012) ق.م, وتوفي في حدود سنة(933) ق.م, وذكر القرآن الكريم له, وقد أنزل هذا الكتاب المجيد بعد وفاة داود ـ عليه السلام ـ بأكثر من(1500) سنة يعتبر من المعجزات التاريخية في كتاب الله, خاصة, وأن كتب الأولين التي أشارت إلي هذا العبد الصالح لم تعتبره نبيا, ولم تذكر من الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عنه شيئا, وأثارت حوله ما شوه صورته تشويها شديدا, وهو الذي امتدحه القرآن الكريم في العديد من آياته, وامتدحه ـ المصطفي صلي الله عليه وسلم ـ بقوله الشريف:أفضل الصيام صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما, وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا, وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء, وكان يشفي بصوته المهموم والمحموم.

جاء ذكر داود ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم ست عشرة(16) مرة علي النحو التالي:

1ـ منها ما وصف المعركة التي انتصر فيها داود علي جالوت.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ *تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ }
[ البقرة:246-252].

2ـ ومنها ما يؤكد أن داود ـ عليه السلام ـ كان نبيا رسولا, آتاه الله ـ تعالي ـ
كتابا اسمه( الزبور).

﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾
( النساء:163).

﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾
( الإسراء55).

3 ـ ومنها ما جاء عن داود ـ عليه السلام ـ أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل:

﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ ( المائدة78-79).

4 ــ ومنها ما يؤكد أن داود كان من ذرية نوح:

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ ﴾ (الأنعام83 ـ86) ..

5 ـ ومنها ما تحدث عن واقعة تحكيم بين رجلين من قومه قضي فيها داود برأيه, ثم استأذنه ابنه سليمان في قضاء آخر فأيده أبوه علي قضائيه ووصفه بالحكمة:

﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الأنبياء78 ـ79) ..

6 ـ ومنها ما يشهد بأن الجبال والطير كانت تسبح مع تسبيح داود ـ عليه السلام ـ وأن الله ـ تعالي ـ قد ألان له الحديد وعلمه كما علم ابنه سليمان منطق الطير, وآتاهما من لدنه علما, كما علمه صناعة الدروع من رقائق حديدية متداخلة متعرجة لا تحد حركة الجسم وتحميه, وكان ذلك من أسباب انتصاراته العسكرية العديدة:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ﴾(النمل15 ـ16) ..

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ( سبأ10 ـ11) ..

﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ﴾ (ص17 ـ20) ..

7 ـ ومنها ما يروي أن الله ـ تعالي ـ علم داود ـ عليه السلام ـ ألا يصدر حكما إلا بعد الاستماع إلي الطرفين المتخاصمين وذلك في واقعة ابتلاء تربوية يرويها القرآن الكريم علي النحو التالي:

﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ ( ص21 ـ26)..

وكل واحدة من هذه الوقائع السبع هي معجزة تاريخية في ذاتها, ومعجزة تربوية وعلمية في آن واحد, وذلك للأسباب التالية:
============================

أولا: إن معظم هذه الوقائع لم تذكرها كتب الأولين.

ثانيا: إن في كل واقعة من هذه الوقائع عددا من الدروس والعبر المستفادة التي لها دورها التربوي الواضح في سلوك كل من يقرؤها أو يستمع إليها.

ثالثا: إن العلم التجريبي يثبت أخيرا أن كل شيء في الوجود
( من الخلق غير المكلف, مثل: الجمادات, والنباتات والحيوانات) له قدر من الذاكرة, والوعي, والإدراك والشعور والانفعال والتعبير,

وإشارة القرآن الكريم إلي أن كلا من الجبال والطير كان يسبح مع تسبيح داود ـ عليه السلام ـ يسجل سبقا واضحا لجميع المعارف المكتسبة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة, كما يثبت معجزة علمية واضحة لا ينكرها إلا جاحد, خاصة أن داود ـ عليه السلام ـ كان قد من الله ـ تعالي ـ عليه بصوت فائق العذوبة والجمال ويزيده جمالا مسحة من الوقار والجلال,

فقد سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ صوت أبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وهو يقرأ من القرآن الكريم بالليل, فقال صلي الله عليه وسلم لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود وإسماعيل الخلق غير المكلف هو درجة من درجات الصفاء الروحي, والإشراق القلبي, والسمو العقلي لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ـ سبحانه وتعالي ـ

وفي هذا السياق تأتي إلانة الحديد لنبي الله داود عليه السلام ـ خارقة من تلك الخوارق التي وهبها الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح والرسول الصادق, كذلك كان من نعم الله ـ تعالي ـ علي عبده داود ـ عليه السلام ـ إلهامه بصناعة الدروع من رقائق وحلقات متداخلة من الحديد لا تثقل الجسم ولا تحول دون حرية حركته, وفي نفس الوقت تحميه من سهام الأعداء وهو ما وصفه القرآن الكريم بتعبير( التقدير في السرد).

ولم يرد في كتب الأولين شيء عن أغلب الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عن عبد الله ورسوله داود ـ عليه السلام, والفارق بين كلام الله وكلام البشر أوضح من الشمس في رابعة النهار,

فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آلة وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته علي يوم الدين ـ وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين ...

{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ }





قال تعالي : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ } ( مريم: 49 ) ..


من أوجه الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله يعقوب ـ عليه السلام 

==============================

ـ جاء ذكر يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم السلام ـ ستة عشر مرة في كتاب الله, كما جاءت الإشارة إليه باسم إسرائيل (أي: عبد الله) مرتين [آل عمران:93, مريم:58],

بالإضافة إلى ذكره بوصفه أبا لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ أو لأحد إخوته, أو لهم جميعا في سورة يوسف. ومن ذلك قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ما نصه:

﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50]

وهاتان الآيتان الكريمتان جاءتا بعد حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه, ذلك الحوار الهادئ الرصين من جانب إبراهيم, الابن المؤمن, المؤدب, اللطيف, المهذب, صاحب الرسالة السماوية الذي يحاول جهده هداية أبيه إلى الحق الذي جاءه من الله ـ تعالى ـ بأرق عبارة ممكنة, وبأفضل أساليب التودد والتحبب من ابن وفي لحقوق الأبوة, بار بها, والرد القاسي الجافي المشبع بالاستنكار والتهديد والوعيد من جانب الأب المشرك عابد الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب, الذي طرد ابنه من حضرته مهددا إياه بالقتل إن لم يعد إلى عبادة ما يعبد أبوه وقومه.

ويرد الابن المؤمن البار الوفي إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه بما يرويه القرآن الكريم:

﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ ﴾ [ مريم:47 ـ48].

وهنا تتنزل رحمات الله وفضله على عبده إبراهيم الذي اعتزل أباه وأهله وقومه, وهجر دياره فرارا بدينه من بطش الجاهلين, وجهالة الكفار والمشركين فقال ـ تعالى ـ:

﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50].

وإسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم الذي رزقه الله ـ تعالى ـ إياه بمعجزة خارقة للعادة; لأنه وهب ذلك الابن الصالح على الكبر من زوجته سارة التي كانت عجوزا عقيما, وذلك استجابة إلى دعاء إبراهيم وهو العبد الصالح والرسول الصالح جزاء جهاده في سبيل الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده.

ويعقوب هو ابن إسحاق, وابن الابن يعتبر ابنا, خاصة إذا ولد في حياة جده, وهكذا كان يعقوب الذي نشأ في حجر جده, فتعلم منه الإسلام من قبل أن تأتيه النبوة, وهكذا كان أبوه إسحاق من قبله ولذلك قال ـ تعالى:

﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ﴾ [ مريم:50]

أي فكانوا (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) صادقين في دعوتهم, مصدقين من الذين آمنوا معهم, محفوفين منهم بما يليق بهم بمقام نبوتهم من الطاعة والاحترام والتكريم, وإن حاربهم أهل الكفر والشرك والضلال كما هي طبيعة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل عبر التاريخ.

ولم يذكر القرآن أية تفاصيل عن حياة نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ على الرغم من ورود ذكره ستة عشر مرة في كتاب الله, ولكن تشير بعض الآثار إلى أنه ولد في فلسطين, ثم رحل إلى آرام من أرض بابل بالعراق, وتزوج هنالك من بنات خاله, ورزقه الله ـ تعالى ـ اثني عشر ولدا عرفوا باسم أسباط بني إسرائيل. ثم رحل يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى مصر في زمن القحط الذي كان قد أصاب المنطقة العربية؛ وذلك للحاق بولده يوسف ـ عليه السلام ـ الذي جعله الله ـ تعالى ـ على خزائن مصر, ومات يعقوب بمصر, ولكن ولده يوسف نقله إلى مدينة الخليل, حيث تم دفنه فيها مع توءمه عيص الذي يعرف عند اليهود باسم(Esau).
وعلى الرغم من إجمال القرآن الكريم لإشاراته عن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ إلا أن درسا هائلا في العقيدة يمكن استقاؤه من موقف من المواقف الرئيسية في سيرة هذا النبي الصالح, وهو موقفه مع بنيه لحظة احتضاره والذي يصفه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133,132].

وتمتدح أولي هاتين الآيتين الكريمتين نبي الله إبراهيم وحفيده يعقوب ـ عليهما السلام ـ إذ أمر الله ـ تعالى ـ عبده ورسوله إبراهيم بالإسلام فاستجاب على الفور لأمر ربه, ولم يكتف بذلك, فذكر أبناءه بأن الله ـ تعالى ـ قد اصطفى لهم الإسلام دينا, ولذلك أوصاهم بالاستمساك بهذا الدين القويم الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من عباده دينا سواه, وأخذ عليهم العهد ألا يموتوا إلا على الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله ـ تعالى ـ وعلى تنزيهه ـ سبحانه ـ عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وكذلك فعل حفيده يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه فأوصاهم بالاستمساك بالإسلام وتطبيقه نظاما كاملا شاملا للحياة, والدعوة إليه, والموت عليه.

أما الآية الثانية فتتوجه بالخطاب إلى الذين يدعون كذبا نسبتهم إلى هذا النبي الصالح: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم جميعا من الله السلام ـ فتقول لهم: هل كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت فعرفتم العقيدة التي مات عليها؟ ألا فلتعلموا أيها الضالون عن الحق حقيقة أن يعقوب ـ عليه السلام ـ حينما حضره الموت دعا إليه جميع بنيه وقال لهم:

﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133].

وفي ذلك إعلان لوحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتأكيد الأخوة بين الأنبياء, وهاتان الحقيقتان هما من القيم اللازمة لاستقامة الحياة على الأرض, خاصة في زمن الفتن الذي يعيشه إنسان اليوم.
وعلى الذين يتشدقون كذبا بالنسبة إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ تارة ـ وإلى يعقوب ـ عليه السلام ـ تارة أخرى أن يقرأوا هاتين الآيتين الكريمتين ليدركوا أن الدين ليس ميراثا يورث, ولكنه قناعة قلبية وعقلية كاملة لا علاقة لها بالدم والنسب, وهو قرار يتخذه كل راشد بعد دراسة وتمحيص دقيق يصل به إلى تلك القناعة القلبية والعقلية الكاملة, وهو ـ قبل ذلك ـ مسئولية الآباء تجاه الأبناء,

ولذلك يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" [ سنن أبي داود].

ويرد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلاء الذين يتخيلون أن الإيمان يمكن أن يكتسب بمجرد النسب بقوله الحق الذي يقول فيه:

﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾
[آل عمران:67].

ويتضح لنا من هذا الاستعراض أن هذا الموقف الجليل من يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو يعظ بنيه في لحظة احتضاره هو الدرس الأساسي المستفاد من عرض القرآن الكريم لسيرة هذا النبي الصالح.

فيعقوب ـ عليه السلام ـ قد حضره الموت, وجاءته ساعة الاحتضار, وهي لحظة رهيبة تعد أصعب اللحظات التي يمكن للإنسان أن يمر بها في حياته; فهو يغادر الدنيا, يغادر الأهل والأبناء والأصحاب, يترك ثروته من ورائه ـ إن كانت له ثروة ـ لا يدري ماذا سيفعل بها, يترك داره إلى ظلمة القبر وضيقه, وإلى هول الحساب وشدته; يتذكر أعماله فيستغفر ويتوب عن السيئات, ويرجو قبول الحسنات, وترتجف فرائصه من المستقبل المجهول!!

ولكن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ لم يشغل باله شيء من ذلك بقدر ما شغله تثبيت أبنائه على الإسلام الذي تعلمه من آبائه في الصغر, وعلمه الله ـ تعالى ـ إياه في الكبر, وأدرك أن هذا الدين هو طوق النجاة في الدنيا والآخرة, فأراد أن يكون الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله هو الميراث الذي يورثه لأبنائه, ووصيته الأخيرة لهم وهو في سكرات الموت ولحظات الاحتضار, والذي يأخذ عليه العهد منهم أن يعيشوا به, وأن يدعوا إليه, وأن يموتوا عليه, كي يكون قد أبرأ ذمته أمام الله, وحملهم أمانة المسئولية عن الإسلام.

والدرس المستفاد من هذا الموقف الكريم ..
===========================

هو إشعار كل والد بمسئوليته عن أولاده (صغارا وكبارا) وأن من أولويات تلك المسئولية أن يعرف كل واحد منهم عقيدته الصحيحة معرفة دقيقة, حتى يعيش بها, ويموت عليها فيحقق الهدف من وجوده في الحياة الدنيا: عبدا لله ـ تعالى ـ يعبده ـ سبحانه ـ بما أمره, ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, وهذا لا يمكن أن يتم بغير هداية ربانية, وهذه الهداية الربانية علمها الله ـ تعالى ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه, وأنزلها على سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله, ثم أكملها وأتمها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين, وسماها باسم الإسلام, ولذلك قال ـ تعالى ـ :

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [آل عمران:19].

وقال ـ عز من قائل ـ: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85].

وهذه الحقيقة هي من أروع جوانب الإعجاز العقدي في كتاب الله; لأن كل شيء في الوجود يشير إلى الوحدانية المطلقة للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ التي يقوم على أساسها الإسلام دين الله.

وموقف يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه لحظة احتضاره يمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله; لأن يعقوب ـ عليه السلام ـ عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, وهذا الموقف الكريم منه استأثر به القرآن المجيد, ولم يرد له ذكر في كتب الأولين, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ }





قال تعالي : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ } ( الصافات:112 ) ..


نركز هنا على ومضة الإعجاز العلمي والتربوي والتاريخي في استعراض القرآن الكريم لجانب من سيرة نبي الله إسحاق بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ


الذي لم يدوِّن المؤرخون شيئا عنه, ولم تذكر كتب الأولين إلا حديثا مشوها عن سيرته, ومن ذلك: الادعاء الباطل بأنه هو الذبيح وليس أخوه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ والادعاء بأن الملائكة الذين زاروا نبي الله إبراهيم وأخبروه بهلاك قوم لوط أكلوا مما قدمه لهم نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ والملائكة لا يأكلون الطعام, وهذا مما لا يليق بمقام نبي من أنبياء الله!

هذا وقد جاء ذكر إسحاق ـ عليه السلام ـ سبعة عشر (17) مرة في القرآن الكريم, كانت كل إشارة منها درسا للمؤمنين بالله من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان من أبلغ تلك الدروس: البشري بولادة إسحاق ـ عليه السلام ـ من أبوين قد بلغ منهما الكبر مبلغه بمعجزة يسجلها القرآن الكريم, حتى لا يقنط عبد من عباد الله من رحمة ربه إذا كان قد حرم الذرية في مقتبل حياته.

من أوجه الإعجاز العلمي والتربوي والتاريخي في النص القرآني الكريم:
======================================

يقول ربنا ـ تبارك اسمه ـ في محكم كتابه عن عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد ابتلائه بالأمر بذبح وحيده إسماعيل, وانصياعه وولده لأمر الله ما نصه:

﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [ الصافات:108 ـ113].

فبعد أن استجاب الله ـ تعالى ـ لدعاء عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي قال فيه:

﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [ الصافات:100],
قال ـ تعالى ـ: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات:101],

وكان الغلام الحليم هو إسماعيل عليه السلام ـ الذي ملأ على أبيه حياته كلها بعد أن هاجر بدينه عن أهله, وقارب التسعين من عمره, ولنا أن نتصور فرحة هذا الشيخ الوحيد الغريب عن أرضه, الطاعن في العمر بمولوده الذي يصفه ربه بأنه حليم, وما كاد نبي الله إبراهيم أن يأنس بوحيده هذا حتى يُبتلى بالأمر الإلهي بإبعاده وأمه عنه, وإسكانهما بواد غير ذي زرع عند قواعد البيت الحرام, وما كاد الغلام ينمو, ويتفتح صباه حتى يؤمر أبوه في المنام بذبحه, ورؤيا الأنبياء حق, ويعرض الوالد الأمر على ابنه الوحيد فيقبل قضاء الله على الفور بالرضى والتسليم والصبر, ويشرعان في تنفيذ أمر الله ـ تعالى ـ الذي فداه بذبح عظيم.
وتقديرا لهذا الموقف الفريد الذي جسد حقيقة الإيمان بالله ـ تعالى ـ والرضى بقضائه, والتسليم لمحكم أمره, كرم الله ـ تعالى شأنه ـ كلا من عبده إبراهيم وولده إسماعيل تكريما فائقا فجعلهما مذكورين على مر الزمان بالذكر الحسن, وترك لهما الثناء على ألسنة المؤمنين من خلقه إلى يوم الدين.

ثم يتجلى فضل الله ـ تعالى ـ على عبده إبراهيم مرة أخرى, فيهب له ابنا آخر في شيخوخته هو الابن الثاني لإبراهيم والذي سماه باسم إسحاق, وبارك الله ـ جلت قدرته ـ على كل من إبراهيم وإسحاق وعلى الصالحين من ذريتهما قائلا:

﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [ الصافات:112 ـ113].

وهذه الوراثة ليست وراثة الدم والنسب فحسب كما يدعي كثير من المبطلين, إنما هي ـ قبل كل شيء ـ وراثة الدين الحق (عقيدة, وعبادة, وأخلاقا, ومعاملات) فمن التزم بهذا الدين الحق فهو محسن, ومن انحرف عنه فهو ظالم لنفسه لا ينفعه نسب, ولا تشفع له قرابة,

ومن الدروس التربوية المستفادة من ميلاد إسحاق لأب شيخ طاعن في السن وأم عجوز عقيم ما يلي:
====================================

1ـ الإيمان بأن الدنيا هي دار ابتلاء, وأن النجاح في الابتلاءات الدنيوية هو الطريق الموصل إلى جنة الخلد بإذن الله, وأن كل ابتلاء يقود إلى فرج إذا تحمله العبد بشيء من الرضى, والصبر, والتسليم بقضاء الله وقدره, مع القناعة التامة بأنه الخير كل الخير, وأن جزاء الصبر على الابتلاء عظيم في الدنيا قبل الآخرة

ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, ويبتلى المرء على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه, وإن كان في دينه لين خفف عنه البلاء".

2ـ الإيمان بأن الذرية من الرزق, وأن الرزق من الله ـ تعالى ـ وحده القائل:..

﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [ الشورى :50,49].

والقائل: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾
[ آل عمران:6].

والقائل: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد : 8 ].

وفي ذلك يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها, وخلق سمعها وبصرها, وجلدها ولحمها وعظامها, ثم قال: يا رب! ذكر أو أنثي؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك".[ صحيح مسلم].

فالذي يخلق النطف هو الله, والذي يزاوج بينها في الأرحام هو الله, والذي يحدد جنس الجنين ويرعاه في جميع مراحله هو الله الذي وصف ذاته العلية بوصف الخالق البارئ المصور.

3 ـ الإيمان الجازم بأن الله ـ تعالى ـ على كل شيء قدير: لذلك جاء ميلاد إسحاق ـ عليه السلام ـ حدثا خارقا للعادة, بشرت به الملائكة كما جاء في قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ موجها الخطاب إلى خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنص القرآني التالي:

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ . [الذاريات:24 ـ30].

وقوله ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ:﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ﴾ [ إبراهيم :39 ـ41].

والإعجاز العلمي هنا يتلخص ..
===================
في ميلاد طفل من أب شيخ كبير ومن أم عجوز عاشت طيلة حياتها عاقرا, مما يؤكد أن الخلق عمل إلهي محض, لا دخل لمخلوق فيه, وهو ما أكدته كل المشاهدات العلمية الراشدة.

ويتمثل الإعجاز التربوي ..
================
بضرورة ترويض النفس الإنسانية على قبول قضاء الله وقدره بنفس راضية وقناعة كأملة بأن في ذلك الخير كل الخير, حتى وإن بدا في ظاهره غير ذلك, وتعويد تلك النفس الإنسانية على التوجه بالدعاء إلى الله ـ تعالى ـ فالدعاء هو مخ العبادة, لأنه يجسد مقام عبودية العبد لخالقه ـ سبحانه وتعالى ـ أبلغ تجسيد.

أما الإعجاز التاريخي ..
==============
فيتمثل في سرد معجزة ميلاد نبي الله إسحاق ـ عليه السلام ـ بهذا التفصيل الدقيق الذي لم يخالطه خلل واحد في جميع جزئياته, خاصة إذا علمنا أن نبي الله إسحاق قد عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد.

والقرآن الكريم لم يُفَصِّل قصة هذا النبي الصالح كما فَصَّل غيرها من قصص الأنبياء, على الرغم من ورود اسمه سبعة عشر مرة في كتاب الله, وكان المقصود من ذلك هو الدرس المستفاد من معجزة ميلاده من أبوين كانا قد جاوزا القدرة على الإنجاب, إثباتا لقدرة الله المطلقة التي لا تحدها حدود ولا يقف أمامها عائق, والتي وصفها الحق ـ تبارك وتعالى ـ بقوله العزيز:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [ يس:83,82].

والإيمان بطلاقه القدرة الإلهية ركن من أركان الإيمان بالله.، ولا يقلل من هذه المعجزة التاريخية القديمة وجود شيء من التوافق بين ما جاء عنها في كتاب الله, وفي بعض كتب الأولين, لأن ذلك يدعم صدقها التاريخي, ويكفي للدلالة على ذلك أن القرآن الكريم يؤكد أن الابن الذي أمر نبي الله إبراهيم بذبحه هو إسماعيل ـ عليه السلام ـ وقد كان ولده الوحيد الذي وهبه الله ـ تعالى ـ إياه على الكبر بعد أن كان قارب التسعين من العمر, وهو في غربته, بعيدا عن أهله وقرابته وقومه, وقد رزقه بعد إلحاح الدعاء على الله ـ تعالى ـ قائلا:

﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [ الصافات:100],

وبعد طول انتظار استجاب الله دعاءه, ورزقه غلاما صالحا حليما, ثم ابتلاه الله ـ سبحانه ـ بالأمر بإبعاد الغلام وأمه عنه ففعل, وبعد أن بلغ هذا الغلام الصالح مرحلة الصبا, وبدأ يقف بجوار أبيه أُمِر إبراهيم بذبح وحيده, وعلى الفور يشاور إبراهيم وحيده في أمر الله, فيطيع الغلام ويصبر لحكم الله, ويلبي الأب مستجيبا لأمر ربه في قبول ورضى تامين, على صعوبة الأمر على قلب كل منهما, وقد فعلا ذلك طاعة لله واستسلاما لأمره, مما يجسد تلك العبادة أبلغ تجسيد, وهي من ركائز الإسلام العظيم.

وجزاء على هذا الموقف النبيل أثنى الله ـ سبحانه وتعالى ـ على كل من إبراهيم وولده إسماعيل أفضل الثناء, وأكرمهما أعظم الكرم وذلك بالمباركة عليهما وعلى ذريتهما بجعل ختام النبوة في ذرية إسماعيل ـ عليه السلام ـ ثم بشر إبراهيم بابن آخر هو إسحاق, وإبراهيم في عمر لا يسمح له بذلك وزوجه عجوز عقيم, وبارك الله ـ تعالى ـ عليه وعلى إسحاق, ويأتي ميلاد إسحاق وإسماعيل فتى يافع, قد قارب الرابعة عشرة من العمر, وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون الابن الذي أمر إبراهيم بذبحه هو إسحاق, حيث يؤكد القرآن الكريم على أن الذبيح كان إسماعيل وهو ما يدعمه المنطق ويؤكده الدليل:

﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [ النساء:122].

فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ... }





قال تعالي : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ... } ( المائدة:27 ) ..

من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم: يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه:
===================================

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [ المائدة:27 ـ31].

والخطاب هنا موجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول له فيه رب العالمين: اقرأ يا محمد علي اليهود في المدينة حقيقة خبر ابني آدم ـ عليه السلام ـ حين تقرب كل منهما إلي الله ـ تعالي بقربة, فتقبل ربنا ـ تبارك وتعالي ـ قربة أحدهما لإخلاصه وتقواه, ولم يتقبل من الآخر لعدم توافر الإخلاص فيه, فحسد فاقد الإخلاص أخاه التقي المخلص, وتوعده بالقتل, فرد الأخ التقي الصالح بأن الله ـ تعالي ـ لا يتقبل العمل إلا من عباده الأتقياء المخلصين, قائلا: لئن أغواك الشيطان فمددت يدك نحوي لتقتلني, فأنا لن أمد إليك يدي لأقتلك, وذلك لأني أخاف الله رب العالمين, وسوف أتركك تفعل ما تريد لتحمل ذنب قتلي بغير إثم جنيت, فتكون من أهل النار, والنار هي جزاء الظالمين في الآخرة.

وعلي الرغم من هذا الأدب في الحوار, والتحذير الشديد من النار فإن الأخ الظالم سولت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين.

وبعد وقوع أول جريمة قتل لآدمي علي وجه الأرض أصابت القاتل مختلف ضروب الحسرة والحيرة لأنه فوجيء بأخيه جثة هامدة أمامه بلا حراك, ولم يدر ماذا يصنع بها بعد أن قتل صاحبها, وبدأت الجثة في التعفن أمامه,

فأرسل الله ـ تعالي ـ غرابا ينبش أمام هذا الإنسان القاتل في تراب الأرض ليدفن غرابا ميتا, كي يعلم هذا القاتل الأول من بني آدم كيف يواري جثة أخيه في تراب الأرض سترا لها, فانفجر هذا القاتل باكيا, ومتحسرا علي جريمته, ومستشعرا سوء عمله وعجزه وحيرته قائلا: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي... فقام بدفن جثة أخيه وهو يبكي ندما علي جريمته.

وكما كانت هذه هي أول جريمة قتل يقترفها الإنسان كانت عملية دفن جثة هذا القتيل هي أول عملية دفن في تاريخ البشرية, وهذا الدفن في تراب الأرض كان بأمر من الله ـ تعالي ـ عن طريق عمل الغراب إكراما للميت, ومنعا لانتشار الأمراض والأوبئة إذا بقيت جثث الموتى معرضة للهواء.

وعقابا لقاتل أخيه بغير ذنب, وتجريما لعملية القتل ظلما, روي الإمام أحمد بسنده إلي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان علي ابن أدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل".

وكطبيعة القرآن الكريم, أوردت الآيات(27 ـ31) من سورة المائدة: قصة ابني آدم دون الدخول في التفاصيل كالأسماء, والأماكن, والتواريخ, وذلك من أجل إبراز الدروس المستفادة, والعبر المستفادة من عرض القصة لنموذجين من نماذج البشرية النموذج التقي الصالح, والنموذج الشقي الطالح, وكلاهما في موقف من مواقف الطاعة لله ـ تعالي ـ يقدم كل واحد منهما قربانه إلي ربه.. فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, والفعل( تقبل) مبني للمجهول, ليشير إلي قوة غيبية, تقبلت أو لم تتقبل القربان بكيفية غيبية كذلك, حتى تسد علي التفكير البشري المحدود مجال الشطحات غير المرتبطة بنص صريح من كتاب الله ـ تعالي ـ أو من سنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولكي تؤكد براءة الذي تقبل منه قربانه, حيث لم يكن له يد في قبوله, ومن هنا لم يكن لأخيه مبرر في الغضب منه والحنق عليه حتى يجيش في نفسه خاطر قتل أخيه, وفي ثورة هذا الغضب هدد أخاه بالقتل قائلا: لأقتلنك, فلم يكن عند صاحب التقوى والورع من جواب إلا أن يقول: إنما يتقبل الله من المتقين, وهذا هو الدرس الأول المستفاد من هذه القصة.

ويضيف الأخ الصالح قائلا لأخيه: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لا قتلك إني أخاف الله رب العالمين, ويحذر أخاه من الوقوع في جريمة القتل, فيقول له: إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين,

والإثم الأول: هو إثم القتل الذي كانت تراوده به نفسه الأمارة بالسوء, والإثم الثاني: هو إثم عدم الإخلاص لله الذي أدي إلي عدم قبول القربان منه, وإن كان الإثم الأول قد جاء لاحقا للإثم الثاني.

وما قاله الأخ الصالح التقي للأخ الطالح الشقي كان من أجل إقناعه بخطورة جريمة القتل, في محاولة لصده عن الوقوع فيها دون جدوى, وقد سجل القرآن الكريم ذلك بقول الحق تبارك وتعالي: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين,
وهذا هو الدرس الثاني المستفاد من إيراد هذه الواقعة,

لأنه قتل نفسا بغير حق, فأورد نفسه موارد المسئولية أمام الله, وكان المقتول هو أخاه شقيقه, المفروض فيه أنه عونه ونصيره في الحياة, فخسر الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين.

وقد شاء الله ـ تعالي ـ أن يوقف هذا الشقيق القاتل أمام عجزه عن كيفية التخلص من جثة أخيه الذي قتله بيده, وتركه مسجيا علي الأرض جثة هامدة تتعفن أمام ناظريه, وهو لا يدري ماذا يفعل بها, والموت له رهبة لا يستطع القلم وصفها, والإنسان مكرم حيا وميتا, وهذا ما أوقع الأخ القاتل لأخيه في حيرة شديدة.
وبينما الأخ القاتل في حيرته وسط هذه الدوامة من المشاعر والأحاسيس المتضاربة, بعث الله ـ تعالي ـ غرابا يعلمه كيف يواري سوءة أخيه, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:

﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [ المائدة:31] .

وهنا قام هذا الشقيق القاتل بدفن جثمان أخيه كما علمه الغراب, فأصبح دفن أموات بني آدم سنة ألهمها الله ـ تعالي ـ لعباده,

وهذا هو الدرس الثالث, المستفاد من إيراد قصة ولدي آدم في القرآن الكريم, وهي تؤكد تصارع الخير والشر في الحياة الدنيا, حتى بين الأشقاء وبين أبناء الأنبياء.

وتبين الواقعة كذلك أن الباطل لا منطق له ولا حجة تدعمه, ولذلك فسلاح أهل الباطل هو دوما البطش والقتل والطغيان, دفاعا عن مواقفهم الهزيلة, كما يحدث اليوم علي أرض فلسطين, وفي كل من العراق وأفغانستان, وعلي أراضي كل من الصومال والسودان وكشمير وأراكان وإنجوشيا والشيشان وفي غيرها من بلاد المسلمين.
وهذا هو الدرس الرابع المستفاد من إيراد تلك الواقعة,

وإيرادها هو من أوجه الإعجاز الإنبائي الغيبي في كتاب الله لأن الواقعة لم يشهدها أي من الناس سوي أبوينا آدم وحواء وأبنائهما المباشرين, ولم يكن لأحد من أهل الجزيرة العربية في زمن الوحي إلمام بها علي الإطلاق.

من هنا كانت إشارة القرآن الكريم إلي قصة ولدي آدم تمثل وجها من أوجه الإعجاز في كتاب الله نسميه الإعجاز الإنبائي الغيبي حيث إن القرآن الكريم يخبر عن واقعة غيبية وقعت من قبل عشرات الآلاف من السنين, ولم يشهدها من بني آدم إلا آدم ـ عليه السلام ـ نفسه وزوجه وعدد من أوائل أبنائهما, ولم يكن لأحد من كفار ومشركي قريش إلمام بهذه الواقعة.

إذا علمنا أن العرب في زمن الجاهلية لم يكونوا أهل علم وتدوين, بل كانوا في غالبيتهم من الأميين, وكذلك كانت غالبية أهل الكتاب الذين كانوا موجودين في عدد من الجيوب المعزولة علي أطراف شبه الجزيرة العربية الشمالية والشمالية الشرقية, والجنوبية الغربية كالمناذرة الذين سكنوا شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق, وكانوا عربا واعتنقوا النصرانية وتحالفوا مع الفرس, ثم دخلوا الإسلام بعد الفتح الإسلامي, وكالغساسنة وهم سلالة عربية كذلك, يمنية الأصل هجرت بلادها عند انهيار سد مأرب في القرن الثالث الميلادي, واستوطنت بلاد حوران وشرقي الأردن وفلسطين ولبنان, واعتنق عدد من أبنائها الديانة النصرانية, ثم أسلم غالبيتهم بعد الفتح الإسلامي, وكيهود كل من خيبر ويثرب والذين أسلم بعضهم بعد وصول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي المدينة, ويهود ونصاري كل من نجران واليمن..

إذا علمنا ذلك, أدركنا ومضة الإعجاز الإنبائي في إيراد القرآن الكريم لقصة ولدي آدم بالصورة التي اتسم بها هذا الكتاب العزيز في إيراد القصةـ لا بتفاصيلها التاريخية: المكانية والزمانية, ولا بكثرة أسماء وأعمار الأشخاص الواردة أسماؤهم فيها ـ ولكن بإيراد الدروس والعبر المستفادة منها, وهذا هو الفارق بين الوحي السماوي الذي حفظ بعهد من الله ـ تعالي ـ وبين قصص التراث الشعبي الذي نقل مشافهة عبر آلاف السنين فأضيف إليه ما أضيف وحذف منه ما حذف.

فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أعياد المسلمين .

 أعياد المسلمين . أحبتي فى الله لنتأمل عيد الفطر وعيد الأضحى، ما هي مناسبة هذين العيدين؟  الحقيقة أنني بحثت عن تاريخ ولادة النبي صلى الله ع...